عادة، وعندما يقع طفل في المدرسة ويصاب بجروح طفيفة، تقوم عيادة المدرسة بمعالجته بما تستطيع قبل أن تخبر والدته أن تأتي لتأخده للمنزل، ومع ذلك وعندما تتصل معلّمة أو ممرضة بالأمّ لتقول لها "ابنك وقع بس ما صارله شي، لو يرجع اليوم يرتاح يكون أحسن"، تأتي الأمّ لاهثة، لا ترى أمامها سوى تخيّلات وصور ضبابيّة "كيف وقع، وين، نزل منّه دم؟ توجّع؟ أكيد دوّر عليّ ما لقاني"، تركض كالمجنونة لتتأكّد من سلامة ابنها، تكذّب جميع ما يقولون ولا تثق سوى بعينيها اللتين حنّتا عليه طفلاً، ولا تثق سوى بأصابعها تمشي على جرحه فإذا توجّع كانت له بلسماً.
إنّ أسوأ ما قد يصل لأمّ على هاتفها هي مكالمة تُفتتح بجملة "انتي أم فلان؟"..
جلست أم وليد في الممرّ، ممنوعة من دخول الغرفة. جلست بهدوء على الأرض ووجهها ملطّخ بالدّماء، يداها ترتجفان وعيونها متّسعة لا ترمش، خافضة الرّأس تضمّ ركبتيها وتهزّ جسدها يمنة ويسرة، كما كانت تهزّ سريره.
كان الممرّ مليئاً بالنّاس، تضجّ جدرانه بالأجساد المرتمية في زواياه تهتزّ كاهتزاز أمّ وليد، لم تكن ترى سوى أقدام تهرول من أمامها؛ هذه قدم تلبس نعال مُقاتل، وهذه أقدام تلبس حذاء كان لونه أبيض، وهذه الأقدام، أين القدم الثّانية؟ قدمه عارية مُوَرّمة.
"ادخلي يا أم وليد"، أمسك بها من تحت إبطها رفعها عن الأرض كمن يرفع صخرة ثقيلة باردة. "إشو، ما بدّك تشوفيه؟"، فترد هامسة مخاطبةً ضبابيّة عقلها "أنا ابني مو هون، ابني حكى معي الصّبح، ليش جبتوني لهون؟ أنا سمعته، حكى معي الصّبح".
دخلت أمّ وليد الغرفة بعد أن شقّت طريقها من بين شراشف حمراء ملقاة على الأرض، تحتها أجساد. اقتربت من سرير حديديّ أصلب من الأرض التي كانت تجلس عليها وأبرد، تحسّست السّرير وقالت باستياء: "والله سرير بيتنا أدفى وأريح لك، تعا يُوم نقوم". ثمّ وضعت يدها على ركبته ومن ثمّ بطنه ومن ثمّ صدره ومن ثمّ على فمها "إشو عملوا فيك يا نور العيون"، وراحت في ذهول.
رأت ابنها البكر مرتمياً يلفظ أنفاسه الأخيرة على قطعة حديديّة صدئة، آخر ما يسمعه هو صوت آهات العشرات بجانبه، ومحاولات الأطبّاء الفاشلة لإنعاش من أصيب قلبه بشظايا الانفجار الأخير، دعاء هنا وصلاة هناك وبكاء طفل لا يعلم بعد أنّه آخر من بقي من حيّه كاملاً، أنّه الأمل الوحيد، بكل جروحه، وبيده المفقودة ورأسه المعصوب، هو آخر أمل.
بدأت أم وليد تتلو على وليد آيات يحفظها، تقول له: "عيد يا يُوم، قول وراي"، فيحرّك جفونه ولا شيء آخر، جسده كلّه مطليّ باللّون الأحمر، جسد بارد، وجبين ملوّث بالتّراب "جبينك يا ابني طاهر". بدأت نبضات قلبه تتسارع وبثقل قال لها: "يا أمي، ادعيلي".
أمسكت بيده، واقتربت من أذنه تتشهّد عنه، تخبره أنّها راضية بحكم ربّها، وجهها جافّ من الدّموع متشقّق، ويداها متينتان تشدّان على يديه، "ابني نحنَ بنكمّل طريقك".
"أم وليد، الله يرحمه هاد شهيد".. فنظرت للمُمرّض "كنت شيفتله عروس بتاخد العقل، كانت كل نسوان الحارة تحكي عن جمال ابني وتربيته. بس بتعرف شي؟ هاد مو ابني، انا ابني حرّ ما مات، ابني بحلب، اتصل فيّ الصّبح وحكى لي انّو منيح. هاد اللي على السّرير مو ابني، ابني الحر بسلاحه عم يحرّر حلب".
وعادت تجلس في ذلك الممرّ، متقوقعة حول نفسها، تبحث عمّن يؤكّد كلامها، أو تنتظر رنّة على هاتفها، لعلّها المرّة الوحيدة التي ستكون مكالمة هاتفيّة تبدأ بـ"انتي أم فلان؟" أمراً جيّداً وخبراً طيّباً. فأم وليد فقدت كلّ عائلتها وهي توضّب لهم ملابسهم للرّحيل عن حلب. بقيت هي ووليد، والآن هي فقط، ولا أحد سيرنّ عليها بعد الآن. أم وليد لم تعدّ أمّاً لأحد.