top of page
صورة الكاتبAdmin

أضحية مع وقف التنفيذ - علي الأحمد

عمري لم يتجاوز السادسة حينما طلبَ مني جدي أنْ أتقلدَ فعله، حيث وضعَ باطن كفهِ بافتراشةِ الأصابعِ الخمسة فوق دماءِ الأضحية، وألصقَ يدهُ على جبينِ البابِ الرئيس للمنزل، أدهشني الفعلُ على الرغمِ من عبثيتهِ ورؤيتي الصبيانية له، فدفعتني دهشتي لأسأل: لمَ فعلنا هذا يا جدي؟

نظرَ إليّ مبتسمًا وقال: أنَّ سيلَ الدماءِ من عنقِ الأضحيةِ هو كالنهرِ الذي يَغسل بطريقهِ كل ذنبٍ، وهذا غفرانٌ وعطاءٌ من الله يا ولدي، وأما وضعُنا للدماءِ فوق الباب فهو رسالة لنا نقرأها في الوقتِ القادم من أعمارنا لنبقى على ذكرى أننا أقمنا عهدًا بيننا وبين الله لغفرانهِ ورحمتهِ لنا وظنًا منا بخيريته وتكريمه لنا بقربه.

لم يسعني إلى الآن أن أتيقن من صحة ما قاله لي جدي، وصِدقِ ما همسه لي في قلبي قبل أذنيّ، جلُّ ما أعرفه أنه لم يحدثني حديثاً كاذباً قط، وأنه لم يدلني على طريقٍ غيرِ الخير الذي تبغيه فطرتنا وإنسانيتنا.

على مدار السنوات العشرين الماضية أو مايزيدُ بقيتُ أستحضرُ الموقف ومعناه، وأعيدُ في خلدي المفردات ذاتها التي حدثني بها جدي لأعيدَ العهد وأشد وثاقه، وأُغلظَ بالرجاء والطلب اللحوح بالقبولِ من الله وأن تُرزقَ الدماءُ قوة تغسلُ كل ذنوبي وخطاياي –بإذنه عز وجل-

توالتْ الأفكار وتزاوجت تطوراً بفعل الزمن والعوامل كلها، وبدأتُ أحاول جاهداً البحث عن رؤية أشد اتساعاً للمشهد، وأخرجَ من نظرةِ الفردية في الأداء إلى أممية الفعل والشعائرية، فبدأتُ أسأل:

كم من أضحية على مستوى الأمة يراقُ دمها كل عامٍ، وتُنذرُ لله تقرباً وحباً، ورجاءً بالغفرانِ والعفو؟ وكم من أضحيةٍ وزعت –تثبيتاً للعهد وتوثيقاً له- على الفقراء والمساكينَ؟ وكم من رجاء لُبيَّ؟ وكم من عهد بقي في تلافيف الذاكرة يشد الحضور ويجدد الولادةَ لدى أصحابه أمام عطاء الله وحبه؟

الأسئلة تتوالد وتشتد، حتى حجمني مشهد الأمة عن قبول أي فكرة أخرى، أو ابتلاع أي مشهد يمكنه أي يضفي بي إلى رقعةٍ من الاطمئنان والهدوء –لعدمهِ في الحضور- ورأيتُ أن الأسئلة عليها أن تكونَ بصورة مغايرة كلياً: كم من الدماء التي لم تستطع إراقتها غسلَ ذنوبنا وتطهير ضمير الأمة في معناه الأعمق؟ فالوضع العام ينم عن جرحٍ عميق غائر في صدرها عصي على الشفاء، في وقت –كهذا- تخلو منه المقومات الأساسية للنهضة والبعث، هذا قد يتفق عليه أغلب الناظرين في وضعها وعمق تصوراتها، لكن ما يقضُ مضجعي ويقلق حبر دواتي، هو انهيار المنظومة الروحانية أيضاً، وهذا هو الأشد صعوبة، فلو أن الرجاءَ الذي يعانقُ عُنق الأضحية دُق بصدقٍ –والتنويه إلى عدم التعميم هنا- في جبينِ الباب وصدره لما تكدست ذنوب الأجيال جيلاً وراء جيل، فحجبت كل القدرات على تجاوز مأثمنا والانتقال من الغسلِ في الذنب إلى البناءِ في الفعل والشعيرة.

هل ستكفينا كل الأضاحي لتغسلَ وجعنا وتزيلَ الدرنَ عن قلوبِ الأمة وضمائرها؟ وهل ستبقى شعائرنا هكذا مع وقف التنفيذ خاليةً من أي روحٍ تُدفع في عمق الأمة لتحيا فعلاً وقولاً وبعثاً؟

١٤ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

نقطة آخر السطر

خرجت دامعة العين،ذهبت ولَم تَعُدْ،لملمت نفسها وقوتها وغادرت،خرجت ولَم تُحرِّك ساكناً قط،تحاول أن تترك ضعفها..انكسارها..دموعها...

ﻛُـﻞ ﻋـــﺎﻡ ﻭﺃﻧـﺘــﻢ ﺑـــﺸــﺮ

ﻳـﺂ ﻋـﺮﺏ ﻣـَﺎﺕ ﻓـﻴﻬﻢ ﺍﻟﺸـﺮﻑ ﻭﺍﺣﺘـﻀـﺮ ﻳﺎ ﻋـﺮﺏّ ﺻَـﺮﺥ ﻓـﻴﻬﻢ ﺍﻟﻮﻃـﻦ ﺣﺘـﻰ ﻛَـﻔﺮ ﻳﺎ ﻋـﺮﺏ ﺗـﺎجرﻭﺍ ﺑـﺮﺑﻬﻢ ﻭﺩﻳﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻳﺎ ﻋـﺮﺏ ﺻـﺎﺭﺕ...

bottom of page