top of page

المرض النفسي النسبي - د.فداء أبو الخير


 

المرض النفسي نسبي!؟

الصحة النفسية مفهوم واسع، يتداخل مع مجالات الحياة كافة، ويختلف باختلاف تكويننا الشخصي، والخبرات التي يواجهها كلٌ منا. وربما للتوضيح أكثر ينبغي الإشارة إلى أن الصحة النفسية لا تعني الخلو من الأمراض، بل هي أكثر شمولية، فهي تعني القدرة على تجاوز العقبات بسلام، والتكيف مع التغيرات التي تحدث حولنا، سواء الإيجابية أو السلبية. وبذلك يتضح معنى أن تكون الصحة النفسية نسبية؛ فهناك من يمكن أن يتمتع بصحة نفسية مرتفعة جداً، وهناك من يتمتع بالقليل من الصحة النفسية ويحتاج للدعم، أو في حالات أخرى هناك من يحتاج العلاج النفسي لمعاناته من الاضطرابات النفسية، أو الانحرافات السلوكية. وهذا يوضح أن الصحة النفسية نسبية لكن المرض النفسي ليس نسبي بالمعنى المطلق؛ أي أن مقولة كل منا مريض نفسي لكن بنسبة معينة خاطئة، والصحيح كل منا يمتلك الصحة النفسية بنسبة معينة. فالتشخيص بالاضطرابات النفسية يحتاج لتوافر عدد من المحكات أو المعايير التي تشمل فترة زمنية لاستمرارية الأعراض، وتأثيرها على أدوار الشخص ووظائفه في الحياة.

تتداخل الكثير من الشكاوى، وتختلط الأمور على الأشخاص، فتختلط المسميات ومن ثم وصف الشكوى، والنصائح التي قد تقدم. وفِي هذا الصدد سيتم طرح بعض من الخرافات حول الصحة النفسية، والأخطاء التي قد تتسبب بتشخيص خاطىء، والذي ينتهي لعلاج ليس ذو فائدة. وفِي المقال القادم سأقدم توضيح لحقوق منتفعي الخدمات النفسية، والتي لها أكبر الأثر في الاختيار الصحيح، وفِي معرفة الواجبات اللازم اتباعها للحصول على النتائج العلاجية المرجوة.

من أكثر المشاكل التي تؤثر على اللجوء لاستشارة المختصين هي الخرافات التي يتخذها الأشخاص كمسلمات ويتبعها دون التحقق منها، إنما هي موروث ثقافي اجتماعي لا أساس له من الصحة. فمثلاً الاضطرابات النفسية ما هي إلا نتيجة للبعد عن الدين، وأن العلاج النفسي لن يجدي نفعاً، وهنا ينبغي الإشارة لأسباب الاضطرابات النفسية والتي تتعدد وتختلف من شخص لآخر، والتي توضح أن التدين لا يقي من الإصابة من الاضطرابات لكنه يساعد في التكيف، أو التعافي من خلال الأخذ بأسباب العلاج، والتفكير الإيجابي، والتعديل للتشوهات المعرفية قدر الإمكان، أوعلاجها. فنجد أن من أسباب الاضطرابات النفسية: الخلل في النواقل العصبية، الوراثة في بعض الاضطرابات، الخلل في بعض الغدد والهرمونات، ضرر في بعض أجزاء الدماغ، وأنماط التنشئة الأسرية، والمشاكل الأسرية، والسمات الشخصية، وضعف الصلابة النفسية، والتعرض لخبرات صادمة، وغيرها من الأسباب العضوية والبيئية.

كما يتردد العديد من الأشخاص، ويعبر عن الخوف من مراجعة المختص النفسي، وذلك تجنباً للوصمة، وقلقاً من أن يتم الإدمان على الأدوية النفسية. وهنا ينبغي التنويه إلى أن التأخر في طلب المساعدة يجعل المشكلة بازدياد وتفاقم، وربما تتطور المشكلة إلى أخرى أكثر تعقيداً. فالوصمة الاجتماعية ستضر الفرد بشكل كبير جداً، ثم إن الألم والمعاناة لن يشعر بها إلا صاحبها. كما أن الأدوية النفسية لا تؤدي للإدمان طالما اتبع الشخص تعليمات الطبيب النفسي، وقد يكون هناك قابلية للإدمان فقط على المهدئات، والطبيب النفسي حذر جداً من هذا الأمر، ونعود للتأكيد على أن الحالات التي يدمن الشخص على المهدئات يكون قد تجاوز تعليمات الطبيب وخالفها.

من المشاكل الأخرى التي تواجه أي شخص وتمنعه من زيارة المختصين، الإيمان بالسحر والشعوذة والحسد، وعدم التصديق بالعلم ونتائجه. وهنا لا يمكننا إلا توضيح الخلل من خلال طرح النماذج للمراجع وأسرته لتوضيح الضرر الذي خلّفه تباطؤهم وترددهم في طلب المساعدة في الوقت المناسب، وبالتالي التحسن الذي طرأ للحالات الأخرى التي لجأت لذلك مبكراً.

كما أن من أكبر المعيقات أمام التوجه للعلاج النفسي، هو اعتقاد أن المرض النفسي لا شفاء منه. وهذا يتنافى مع ما أثبتته الدراسات، والملاحظات الإكلينيكية، وآخر ما توصل إليه العلم؛ من أن حتى المشاكل الجينية يمكن تعديلها من خلال تعديل البيئة. لكن هناك شروط ليحدث التعافي المطلوب: الوعي والاستبصار بالمشكلة، والكشف المبكر عنها، وطلب المساعدة من المختص المؤهل، والدافعية والرغبة للشخص المنتفع، وجود الدعم الأسري والاجتماعي، والاستمرار على العلاج حتى انتهائه وانقضاء فترة المتابعة أيضاً.

وربما لن يتسع المقال لذكر جميع الخرافات، وهنا أرجو التواصل مع المختصين لمعرفة الرأي العلمي لأي مقولة يتم تداولها، وتشعر أنها تشكل عائقاً بينك وبين لجوءك لطلب المساعدة.

قد تتكرر الشكاوى من أنه قد تم تشخيص مشكلة ما بشكل خاطيء، وهنا ينبغي التنويه إلى أن هناك بعض الأخطاء الفردية التي يمارسها بعض المختصين، والتي يمكن تفاديها بالاستفسار عن أهلية المختص وشهادته وخبرته. ولعل أبرز أخطاء التشخيص تتعلق بالثقة المبالغ فيها بالذات فيتم التشخيص مباشرة دون جمع البيانات بشكل كافٍ، وذلك اعتماداً على الخبرة المهنية. كما أن بعض المختصين يركزون على تأكيد التشخيص الذي يتوافق مع المعلومات التي تم الحصول عليها من قبل جهة التحويل، أو أسرة المنتفع، دون الاستدلال من خلال المنتفع وجمع البيانات من مصادرها المتنوعة. ونجد أن هناك بعض الانطباعات الساذجة غير المستندة على أسس علمية، وإنما هي نتيجة للموروث الثقافي الاجتماعي، ومتعارضة لما أنتجه البحث العلمي، فيتم تشخيص المشكلات بشكل خاطئ، كأن يتم الحكم على أن النساء لا يمكن أن يصبن بالاضطراب المعادي للمجتمع، لأنه اضطراب ذكوري! أو أن الذكر لا يمكن إصابته بالهستيريا لأنه يصيب النساء فقط!!

هل هذا كثير الانتشار؟ بالطبع لا، الأمر يعتمد على مسؤولية كل من المنتفع، وأسرته، والمختص. ويعتمد أيضاً على حقوق كل أولئك وواجباتهم.

٦٤ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page